فصل: الفصل الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القانون **


 الكتاب الأول الأمور الكلية في علم الطب

يشتمل على أربعة فنون‏:‏

 الفن الأول حد الطب

وموضوعاته من الأمور الطبيعية

 التعليم الأول موضوعات الطب

 الفصل الأول

أقول‏:‏ إن الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة ليحفظ الصحة حاصلة ويستردها زائلة‏.‏

ولقائل أن يقول أن الطب ينقسم إلى نظر وعمل وأنتم قد جعلتم كله نظراً إذ قلتم أنه علم‏.‏

وحينئذ نجيبه ونقول إنه يقال إن من الصناعات ما هو نظري وعملي ومن الحكمة ما هو نظري وعملي ويقال إن من الطب ما هو نظري وعملي‏.‏

ويكون المراد في كل قسمة بلفظ النظري والعملي شيئاً أخر ولا نحتاج ألان إلى بيان اختلاف القسمين فقد حصل لك علم علميّ وعلم عمليّ وإن لم تعمل قط‏.‏

وليس لقائل أن يقول إن أحوال بدن الإنسان ثلاث‏:‏ الصحة والمرض وحالة ثالثة لا صحة ولا مرض وأنت اقتصرت على قسمين فإن هذا القائل لعله إذا فكر لم يجد أحد الأمرين واجباً لا هذا التثليث ولا إخلالنا به‏.‏

ثم إنه إن كان هذا التثليث واجباً فإن قولنا‏:‏ الزوال عن الذصحة يتضمن المرض والحالة الثالثة التي جعلوها ليس لها حدّ الصحة إذ الصحة ملكة أو حالة تصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة ولا لها مقابل هذا الحد إلا أن يحدوا الصحة كما يشتهون ويشترطون فيه شروطاً ما بهم إليها حاجة‏.‏

ثم لا مناقشة مع الأطباء في هذا وما هم ممن يناقشون في مثله ولا تؤدي هذه المناقشة بهم أو بمن يناقشهم إلى فائدة في الطب‏.‏

وأما معرفة الحق في ذلك فمما يليق بأصول صناعة أخرى نعني أصول صناعة المنطق فليطلب من هناك‏.‏

 الفصل الثاني

لما كان الطب ينظر في بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة والعلم بكل شيء إنما يحصل ويتمّ إذا كان له أسباب يعلم أسبابه فيجب أن يعرف في الطب أسباب الصحة والمرض والصحة والمرض‏.‏

وأسبابهما قد يكونان ظاهرين وقد يكونان خفيين لا ينالان بالحسّ بل بالاستدلال من العوارض فيجب أيضاَ أن تعرف في الطب العوارض التي تعرض في الصحة والمرض‏.‏

وقد تبين في العلوم الحقيقية أن العلم بالشيء إنما يحصل من جهة العلم بأسبابه ومبادين إن كانت له إن لم تكن فإنما يتمم من جهة العلم بعوارضه ولوازمه الذاتية‏.‏

لكن الأسباب أربعة أصناف‏:‏ مادية وفاعلية وصورية وتمامية‏.‏

والأسباب المادية‏:‏ هي الأشياء الموضوعة التي فيها تتقوم الصحة والمرض‏:‏ أما الموضوع الأقرب فعضو أو روح‏.‏

وأما الموضوع الأبعد فهي الأخلاط وأبعد منه هو الأركان‏.‏

وهذان موضوعان بحسب التركيب وإن كان أيضاً مع الاستحالة وكل ما وضع كذلك فإنه يساق في تركيبه واستحالته إلى وحدة ما وتلك الوحدة في هذا الموضع التي تلحق تلك الكثرة‏:‏ إما مزاج وإما هيئة‏.‏

أما المزاج فبحسب الاستحالة وإما الهيئة فبحسب التركيب‏.‏

وأما الأسباب الفاعلية‏:‏ فهي الأسباب المغيرة أو الحافظة لحالات بدن الإنسان من الأهوية وما يتصل بها والمطاعم والمياه والمشارب وما يتصل بها والاستفراغ والاحتقان والبلدان والمساكن وما يتصل بها والحركات والسكونات البدنية والنفسانية ومنها النوم واليقظة والاستحالة في الأسنان والاختلاف فيها وفي الأجناس والصناعات والعادات والأشياء الواردة على البدن الإنساني مماسة له إما غير مخالفة للطبيعة وإما مخالفة للطبيعة‏.‏

وأمّا الأسباب الصورية‏:‏ فالمزاجات والقوى الحادثة بعدها والتراكيب‏.‏

وأما الأسباب التمامية‏:‏ فالأفعال وفي معرفة الأفعال معرفة القوى لا محالة ومعرفة الأرواح الحاملة للقوى كما سنبين فهذه موضوعات صناعة الطب من جهة أنها باحثة عن بدن الإنسان أنه كيف يصح ويمرض‏.‏

وأما من جهة تمام هذا البحث وهو أن تحفظ الصحة وتزيل المرض فيجب أن تكون لها أيضاً موضوعات أخر بحسب أسباب هذين الحالين وآلاتهما وأسباب ذلك التدبير بالمأكول والمشروب واختيار الهواء وتقدير الحركة والسكون والعلاج بالدواء والعلاج باليد وكل ذلك عند الأطباء بحسب ثلاثة أصناف من الأصحاء والمرضى والمتوسطين الذين نذكرهم ونذكر أنهم كيف يعدون متوسطين بين قسمين لا واسطة بينهما في الحقيقة‏.‏

وإذ قد فصلنا هذه البيانات فقد اجتمع لنا أن الطب ينظر في الأركان والمزاجات والأخلاط والأعضاء البسيطة والمركبة والأرواح وقواها الطبيعية والحيوانية والنفسانية والأفعال وحالات البدن من الصحة والمرض والتّوسط وأسبابها من المآكل والمشارب والأهوية والمياه والبلدان والمساكن والاستفراغ والاحتقان والصناعات والعادات والحركات البدنية والنفسانية والسكونات والأسنان والأجناس والورادات على البدن من الأمور الغريبة والتدبير بالمطاعم والمشارب واختيار الهواء واختيار الحركات والسكونات والعلاج والأدوية وأعمال اليد لحفظ الصحة وعلاج مرض مرض فبعض هذه الأمور إنما يجب عليه من جهة ما هو طبيب أن يتصوره بالماهية فقط تصوراً علمياً ويصدق بهليته تصديقاً على أنه وضع له مقبول من صاحب العلم الطبيعي وبعضها يلزمه أن يبرهن عليه في صناعته فما كان من هذه كالمبادئ فيلزمه أنه يتقلد هليتها فإن مبادىء العلوم الجزئية مسلمة وتتبرهن وتتبين في علوم أخرى أقدم منها وهكذا حتى ترتقي مبادىء العلوم كلها إلى الحكمة الأولى التي يقال لها علم ما بعد الطبيعة‏.‏

وإذا شرع بعض المتطلبين وأخذ يتكلم في إثبات العناصر والمزاج وما يتلو ذلك مما هو موضوع العلم الطبيعي فإنه يغلط من حيث يورد في صناعة الطب ما ليس من صناعة الطب ويغلط من حيث يظن أنه قد يبين شيء ولا يكون قد بينه البتة فالذي يجب أن يتصوّره الطبيب بالماهية ويتقلد ما كان منه غير بين الوجود بالهلية هو هذه الجملة الأركان أنها هل هي وكم هي والمزاجات أنها هل هي وما هي وكم هي والأخلاط أيضاً هل هي وما هي وكم هي والقوى هل هي وكم هي والأرواح هل هي وكم هي وأين هي‏.‏

وأن لكل تغير حال وثباته سبباً وأن الأسباب كم هي‏.‏

وأما الأعضاء ومنافعها فيجب أن يصادفها بالحس والتشريح‏.‏

والذي يجب أن يتصوره ويبرهن عليه الأمراض وأسبابها الجزئية وعلاماتها وأنه كيف يزال المرض وتحفظ الصحة فإنه يلزمه أن يعطي البرهان على ما كان من هذا خفي الوجود بتفصيله وتقديره وتوفيته‏.‏

و ‏"‏ جالينوس ‏"‏ إذ حاول إقامة البرهان على القسم الأول فلا يجب أن يحاول ذلك من جهة أنه طبيب ولكن من جهة أنه يجب أن يكون فيلسوفاً يتكلم في العلم الطبيعي كما أن الفقيه إذا حاول أن يثبت صحة وجوب متابعة الإجماع فليس ذلك له من جهة ما هو فقيه ولكن من جهة ما هو متكلم ولكن الطبيب من جهة ما هو طبيب والفقيه من جهة ما هو فقيه ليس يمكنه أن يبرهن على ذاك بته‏!‏ وإلا وقع الدور‏.‏

 التعليم الثاني في الأركان

وهو فصل واحد الأركان هي أجسام ما بسيطة‏:‏ هي أجزاء أولية لبلن الإنسان وغيره وهي التي لا يمكن أن تنقسم إلى أجزاء مختلفة بالصورة وهي التي تنقسم المركبات إليها ويحدث بامتزاجها الأنواع المختلفة الصور من الكائنات فليتسلم الطبيب من الطبيعي أنها أربعة لا غير اثنان منها خفيفان واثنان ثقيلان فالخفيفان النار والهواء والثقيلان الماء والأرض والأرض جرم بسيط موضعه الطبيعي هو وسط الكل يكون فيه بالطبع ساكناً ويتحرك إليه بالطبع إن كان مبايناً وذلك ثقله المطلق وهو بارد يابس في طبعه أي طبعه طبع إذا خلي وما يوجبه ولم يغيره سبب من خارج ظهر عنه برد محسوس ويبس‏.‏

ووجوده في الكائنات وجد مفيد للاستمساك والثبات وحفظ الأشكال والهيئات‏.‏

وأما الماء فهو جرم بسيط موضعه الطبيعي أن يكون شاملاً للأرض مشمولاً للهواء إذا كانا على وضعيهما الطبيعيين وهو ثقله الإضافي‏.‏

وهو بارد رطب أي طبعه طبع إذا خلي وما يوجبه ولم يعارضه سبب من خارج ظهر فيه برد محسوس وحالة هي رطوبة وهي كونه في جبلته بحيث يجيب بأدنى سبب إلى أن يتفرق ويتحد ويقبل أي شكل كان ثم لا يحفظه‏.‏

ووجوده في الكائنات لتسلس الهيئات التي يراد في أجزائها التشكيل والتخطيط والتعديل فإن الرطب وإن كان سهل الترك للهيئات الشكلية فهو سهل القبول لها كما أن اليابس وإن كان عسر القبول للهيئات الشكلية فهو عسر الترك لها ومهما تخمر اليابس بالرطب استفاد اليابس من الرطب قبولا ‏"‏ للتمديد والتشكيل سهلاً واستفاد الرطب من اليابس حفظاً لما حدث فيه من التقويم والتعديل قوياً واجتمع اليابس بالرطب عن تشتته واستمسك الرطب باليابس عن سيلانه‏.‏

وأما الهواء فإنه جرم بسيط موضعه الطبيعي فوق الماء وتحت النار وهذا خفته الإضافية وطبعه حار رطب على قياس ما قلنا ووجوده في الكائنات لتتخلخل وتلطف وتخف وتستقل‏.‏

وأما النار فهو جرم بسيط موضعه الطبيعي فوق الأجرام العنصرية كلها ومكانه الطبيعي هو السطح المقعر من الفلك الذي ينتهي عنده الكون والفساد وذلك خفته المطلقة وطبعه حار يابس ووجوده في الكائنات لينضج ويلطف ويمتزج ويجري فيها بتنفيذه الجوهر الهوائي وليكسر من محوضة برد العنصرين الثقيلين الباردين فيرجعا عن العنصرية إلى المزاجية‏.‏

والثقيلان أعون في كون الأعضاء وفي سكونها‏.‏

والخفيفان أعون في كون الأرواح وفي تحرّكها وتحريك الأعضاء وإن كان المحرك الأول هو النفس بإذن باريها فهذه هي

 التعليم الثالث الأمزجة

وهو ثلاثة فصول

 الفصل الأول المزاج

أقول‏:‏ المزاج‏:‏ كيفية حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادات إذا وقفت على حد ما‏.‏

ووجودها في عناصر متصغرة الأجزاء ليماس أكثر كل واحد منها أكثر الآخر‏.‏

إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض حدث عن جملتها كيفية متشابهة في جميعها هي‏:‏ المزاج والقوى الأولية في الأركان المذكورة أربع هي‏:‏ الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة‏.‏

وبين أن المزاجات في الأجسام الكائنة الفاسدة إنما تكون عنها وذلك بحسب ما توجبه القسمة العقلية بالنظر المطلق غير مضاف إلى شيء على وجهين‏.‏

وأحد الوجهين أن يكون المزاج معتدلاً على أن تكون المقادير من الكيفيات المتضادة في الممتزج متساوية متقاومة ويكون المزاج كيفية متوسطة بينها بالتحقيق‏.‏

أميل إلى أحد الطرفين إما في إحدى المتضادتين اللتين بين البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة وأما في كليهما‏.‏

لكن المعتبر في صناعة الطب بالاعتدال والخروج عن الاعتدال ليس هذا ولا ذلك بل يجب أن يتسلم الطبيب من الطبيعي‏.‏

إن المعتدل على هذا المعنى مما لا يجوز أن يوجد أصلاً فضلاً عن أن يكون مزاج إنسان أو عضو إنسان وأن يعلم أن المعتدل الذي يستعمله الأطباء في مباحثهم هو مشتق لا من التعادل الذي هو التوازن بالسوية بل من العدل في القسمة وهو أن يكون قد توفر فيه على الممتزج بدناً كان بتمامه أو عضواً من العناصر بكمياتها وكيفياتها القسط الذي ينبغي له في المزاج الإنساني على أعدل قسمة ونسبة‏.‏

لكنه قد يعرض أن تكون هذه القسمة التي تتوفر على الإنسان قريبة جداً من المعتدل الحقيقي الأوَل وهذا الاعتدال المعتبر بحسب أبدان الناس أيضاً الذي هو بالقياس إلى غير مما ليس له ذلك الاعتدال وليس له قرب الإنسان من الاعتدال المذكور في الوجه الأول يعرض له ثمانية أوجه من الاعتبارات‏.‏

فإنه إما أن يكون بحسب النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه‏.‏

وإما أن يكون بحسب النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو فيه‏.‏

وإما أن يكون بحسب صنف من النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي نوعه وإما أن يكون بحسب الشخص من الصنف من النوع مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي صنفه وفي نوعه‏.‏

وإما أن يكون بحسب الشخص مقيساً إلى ما يختلف من أحواله في نفسه‏.‏

وإما أن يكون بحسب العضو مقيساً إلى ما يختلف مما هو خارج عنه وفي بدنه‏.‏

وإما أن يكون بحسب العضو مقيساً إلى أحواله في نفسه‏.‏

والقسم الأوّل‏:‏ هو الاعتدال الذي للإنسان بالقياس إلى سائر الكائنات وهو شيء له عرض وليس منحصر في حد وليس ذلك أيضاً كيف اتفق بل له في الإفراط والتفريط حدان إذا خرج عنهما بطل المزاج عن أَن يكون مزاج إنسان‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فهو الواسطة بين طرفي هذا المزاج العريض ويوجد في شخص في غاية الاعتدال من صنف في غاية الاعتدال في السنّ الذي يبلغ فيه النشوّ غاية النموّ وهذا أيضا ‏"‏ وإن لم يكن الاعتدال الحقيقي المذكور في ابتداء الفصل حتى يمتنع وجوده فإنه مما يعسر وجوده وهذا الإنسان أيضاً إنما يقرب من الاعتدال الحقيقي المذكور لا كيف اتفق ولكن تتكافأ أعضاؤه الحارة كالقلب والباردة كالدماغ والرطبة كالكبد واليابسة كالعظام فإذا توازنت وتعادلت قربت من الاعتدال الحقيقي وأما باعتبار كل عضو في نفسه إلا عضواً واحداً وهو الجلد على ما نصفه بعد‏.‏

وإما بالقياس إلى الأرواح وإلى الأعضاء الرئيسة فليس يمكن أن يكون مقارباً لذلك الاعتدال الحقيقي بل خارجاً عنه إلى الحرارة والرطوبة‏.‏

فإن مبدأ الحياة هو القلب والروح وهما حاران جداً مائلان إلى الإفراط‏.‏

والحياة بالحرارة والنشوء بالرطوبة بل الحرارة تقوم بالرطوبة وتغتذي بها‏.‏

والأعضاء الرئيسة ثلاثة كما سنبين بعد هذا والبارد منها واحد وهو الدماغ‏.‏

وبرده لا يبلغ أن يعدل حر القلب والكبد‏.‏

واليابس منها أو القريب من اليبوسة واحد وهو القلب ويبوسته لا تبلغ أن تعدل مزاج رطوبة الدماغ والكبد‏.‏

وليس الدماغ أيضاً بذلك البارد ولا القلب أيضاً بذلك اليابس ولكن القلب بالقياس إلى الآخر يابس والدماغ بالقياس إلى الآخرين بارد‏.‏

وأما القسم الثالث‏:‏ فهو أضيق عرضاً من القسم الأول أعني من الاعتدال النوعي إلا أن له عرضاً صالحاً وهو المزاج الصالح لأمةٍ من الأمم بحسب القياس إلى إقليم من الأقاليم وهواء من الأهوية فإن للهند مزاجاً يشمهلم يصحون به‏.‏

وللصقالبة مزاجاً آخر يخصون به ويصحون به‏.‏

كل واحد منهما معتدل بالقياس إلى صنفه وغير معتدل بالقياس إلى الآخر‏.‏

فإن البدن الهندي إذا تكيف بمزاج الصقلابي مرض أو هلك‏.‏

وكذلك حال البدن الصقلابي إذا تكيّف بمزاج الهندي‏.‏

فيكون إذن لكل واحد من أصناف سكان المعمورة مزاج خاص يوافق هواء إقليمه وأما القسم الرابع‏:‏ فهو الواسطة بين طرفي عرض مزاج الإقليم وهو أعدل أمزجة ذلك الصنف‏.‏

وأما القسم الخامس‏:‏ فهو أضيق من القسم الأوّل والثالث وهو المزاج الذي يجب أن يكون لشخص معيّن حتى يكون موجوداً حيا ‏"‏ صحيحاً وله أيضاً عرض يحدّه طرفا إفراط وتفريط‏.‏

ويجب أن تعلم أن كل شخص يستحق مزاجاً يخصّه يندر أو لا يمكن أن يشاركه فيه الآخر‏.‏

وأما القسم السادس‏:‏ فهو الواسطة بين هذين الحدين أيضا ‏"‏ وهو المزاج الذي إذا حصل للشخص كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه‏.‏

وأما القسم السابع‏:‏ فهو المزاج الذي يجب أن يكون لنوع كل عضو من الأعضاء يخالف به غيره فإن الاعتدال الذي للعظم هو أن يكون اليابس فيه أكثر وللدماغ أن يكون الرطب فيه أكثر وللقلب أن يكون الحار فيه أكثر وللعصب أن يكون البارد فيه أكثر ولهذا المزاج أيضاً عرض يحده طرفا إفراط وتفريط هو دون العروض المذكورة في الأمزجة المتقدمة‏.‏

وأما القسم الثامن‏:‏ فهو الذي يخصّ كل عضو من الاعتدال حتى يكون العضو على أحسن ما يكون له في مزاجه فهو الواسطة بين هذين الحدّين وهو المزاج الذي إذا حصل للعضو كان على أفضل ما ينبغي له أن يكون عليه‏.‏

فإذا اعتبرت الأنواع كان أقربها من الاعتدال الحقيقي هو الإنسان‏.‏

وإذا اعتبرت الأصناف فقد صحّ عندنا أنه إذا كان في الموضع الموازي لمعدل النهار عمارة ولم يعرض من الأسباب الأرضية أمر مضاد أعني من الجبال والبحار فيجب أن يكون سكانها أقرب الأصناف من الاعتدال الحقيقي‏.‏

وصحّ أن الظن الذيَ يقع أن هناك خروجاَ عن الاعتدال بسبب قرب الشمس ظن فاسد فإن مسامتة الشمس هناك أقل نكاية وتغييرا ‏"‏ للهواء من مقاربتها ههنا أو أكثر عرضا ‏"‏ مما ههنا وإن لم تَسَامِت ثم سائر أحوالهم فاضلة متشابهة ولا يتضاد عليهم الهواء تضاداً محسوسا ‏"‏ بل يشابه مزاجهم دائما ‏"‏‏.‏

وكنا قد عملنا في تصحيح هذا الرأي رسالة‏.‏

ثم بعد هؤلاء فأعدل الأصناف سكان الاقليم الرابع فإنهم لا محترقون بدوام مسامتة الشمس رؤوسهم حيناً بعد حين بعد تباعدها عنهم كسكان أكثر الثاني والثالث ولا فجون نيون بدوام بعد الشمس عن رؤوسهم كسكان أكثر الخامس وما هو أبعد منه عرضاً وأما في الأشخاص فهو أعدل شخص من أعمل صنف من أعدل نوع‏.‏

وأما في الأعضاء فقد ظهر أن الأعضاء الرئيسة ليست شديدة القرب من الاعتدال الحقيقي بل يجب أن تعلم أن اللحم أقرب الأعضاء من ذلك الاعتدال وأقرب منه الجلد فإنه لا يكاد ينفعل عن ماء ممزوج بالتساوي نصفه جمد ونصفه مغلي ويكاد يتعادل فيه تسخين العروق والدم لتبريد العصب وكذلك لا ينفعل عن جسم حسن الخلط من أيبس الأجسام وأسيلها إذا كانا فيه بالسوية وإنما يعرف أنه لا ينفعل منه لأنه لا يحس وإنما كان مثله لما كان لا ينفعل منه لأنه لو كان مخالفاً له لانفعل عنه فإن الأشياء المتفقة العنصر المتضادة الطبائع ينفعل بعضها عن بعض‏.‏

وإنما لا ينفعل الشيء عن مشاركة في الكيفية إذا كان مشاركة في الكيفية شبيهة فيها‏.‏

وأعدل الجلد جلد اليد وأعدل جلد اليد جلد الكف وأعدله جلد الراحة أعدله ما كان على الأصابع وأعدله ما كان على السبابة وأعدله ما كان على الأنملة منها فلذلك هي وأنامل الأصابع الأخرى تكاد تكون هي الحاكمة بالطمع في مقادير الملموسات‏.‏

فإن الحاكم يجب أن يكون متساوي الميل إلى الطرفين جميعا حتى يحس بخروج الطرف عن التوسط والعدل‏.‏

ويجب أن تعلم مع ما قد علمت أنا إذا قلنا للدواء أنه معتدل فلسنا نعني بذلك أنه معتدل على الحقيقة فذلك غير ممكن‏.‏

ولا أيضاً أنه معتدل بالاعتدال الإنساني في مزاجه وإلا لكان من جوهر الإنسان بعينه‏.‏

ولكنا نعني أنه إذا انفعل عن الحار الغريزي في بدن الإنسان فتكيف بكيفية لم تكن تلك الكيفية خارجة عن كيفية الإنسان إلى طرف من طرفي الخروج عن المساواة فلا يؤثر فيه أثراً مائلاً عن الاعتدال وكأنه معتدل بالقياس إلى فعله في بدن الإنسان‏.‏

وكذلك إذا قلنا أنه حار أو بارد فلسنا نعني أنه في جوهره بغاية الحرارة أو البرودة ولا أنه في جوهره أحر من بدن الإنسان أو أبرد وإلا لكان المعتدل ما مزاجه مثل مزاج الإنسان‏.‏

ولكنا نعني به أنه يحدث منه في بدن الإنسان حرارة أو برودة فوق اللتين له‏.‏

ولهذا قد يكون الدواء بارداً بالقياس إلى بدن الإنسان حاراً بالقياس إلى بدن العقرب وحاراً بالقياس إلى بدن الإنسان بارداً بالقياس إلى بدن الحية بل قد يكون لدواء واحد أيضاً حاراً بالقياس إلى بدن زيد فوق كونه حاراً بالقياس إلى بدن عمرو‏.‏

ولهذا يؤمر المعالجون بأن لا يقيمون على دواء واحد في تبديل المزاج إذا لم ينجع‏.‏

وإذ قد استوفينا القول في المزاج المعتدل فلننتقل إلى غير المعتدل فنقول‏:‏ إن الأمزجة الغير المعتدلة سواء أخذتها بالقياس إلى النوع أو الصنف أو الشخص أو العضو ثمانية بعد الاشتراك في أنها مقابلة للمعتدل‏.‏

وتلك الثمانية تحدث على هذا الوجه وهو أن الخارج عن الاعتدال إما أن يكون بسيطاً وإنما يكون خروجه في مضادة واحدة وإما أن يكون مركباً‏.‏

وإنما يكون خروجه في المضادتين جميعاً‏.‏

والبسيط الخارج في المضادة الواحدة إما في المضادة الفاعلة وذلك على قسمين‏:‏ لأنه إما أن يكون أحر مما ينبغي لكن ليس أرطب مما ينبغي ولا أيبس مما ينبغي أو يكون أبرد مما ينبغي وليس أيبس مما ينبغي ولا أرطب مما ينبغي وإما أن يكون في المضادة المنفعلة وذلك على قسمين‏:‏ لأنه إما أن يكون أيبس مما ينبغي وليس أحرّ ولا أبرد مما ينبغي وإما أن يكون أرطب مما ينبغي وليس أحر ولا أبرد مما ينبغي‏.‏

لكن هذه الأربعة لا تستقرّ ولا تثبت زماناً له قدر فإن الأحر مما ينبغي يجعل البدن أيبس مما ينبغي والأبرد مما ينبغي يجعل البدن أرطب مما ينبغي بالرطوبة الغريبة والأيبس مما ينبغي سريعاً ما يجعله أبرد مما ينبغي والأرطب مما ينبغي إن كان بإفراط فإنه أسرع من الأيبس في تبريده وإن كان ليس بإفراط فإنه يحفظه مدة أكثر إلا أنه يجعله آخر الأمر أبرد مما ينبغي‏.‏

وأنت تفهم من هذا أن الاعتدال أو الصحة أشد مناسبة للحرارة منها للبرودة فهذه هي الأربع المفردة‏.‏

وأما المركّبة التي يكون الخروج فيها في المضادتين جميعاً فمثل أن يكون المزاح أحر وأرطب معاً مما ينبغي أو أبرد وأرطب معاً مما ينبغي أو أبرد وأيبس معاً‏.‏

ولا يمكن أن يكون أحر وأبرد معاً ولا أرطب وأيبس معاً‏.‏

وكل واحد من هذه الأمزجة الثمانية لا يخلو إما أن يكون بلا مادة وهو أن يحدث ذلك المزاج في البدن كيفية وحدها من غير أن يكون قد تكيف البدن به لنفوذ خلط فيه متكيّف به فيتغير البدن إليه مثل حرارة المدقوق وبرودة الخصر المصرود المثلوج وإما أن يكون مع مادة وهو أن يكون البدن إنما تكيف بكيفية ذلك المزاج لمجاورة خلط نافذ فيه غالب عليه تلك الكيفية مثل تبرد الجسم الإنساني بسبب بلغم زجاجي أو تسخنه بسبب صفراء كراثي‏.‏

وستجد في الكتاب الثالث والرابع مثالاً لواحد واحد من الأمزجة الستة عشر‏.‏

واعلم‏:‏ أن المزاج مع المادة قد يكون على جهتين وذلك لأن العضو قد يكون تارةً منتفعاً في المادة متبلاً بها وقد تكون تارةً المادة محتبسةً في مجاريه وبطونه فربما كان احتباسها ومداخلتها يحدث توريماً وربما لم يكن‏.‏

 الفصل الثاني أمزجة الأعضاء

اعلم أنّ الخالق جل جلاله أعطى كل حيوان‏.‏

وكل عضو من المزاج ما هو أليق به وأصلح لأفعاله وأحواله بحسب الإمكان له‏.‏

وتحقيق ذلك إلى الفيلسوف دون الطبيب‏.‏

وأعطى الإنسان أعدل مزاج يمكن أن يكون في هذا العالم مع مناسبة لقواه التي بها يفعل وينفعل‏.‏

وأعطى كل عضو ما يليق به من مزاجه فجعل بعض الأعضاء أحر وبعضها أبرد ويعضها أيبس وبعضها أرطب‏.‏

فأما أحر ما في البدن فهو الروح والقلب الذي هو منشؤه ثم الدم فإنه وإن كان متولداً في الكبد فإنه لاتصاله بالقلب يستفيد من الحرارة ما ليس للكبد ثم الكبد لأنها كدم جامد ثم الرئة ثم اللحم وهو أقل منها بما يخالطه من ليف العصب البارد ثم العضل وهو أقل حرارة من اللحم المفرد لما يخالطه من العصب والرباط ثم الطحال لما فيه من عكر الدم ثم الكِلى لأن الدم فيها ليس بالكثير ثم طبقات العروق الضوارب لا بجواهرها العصبية بل بما تقبله من تسخين الدم والروح اللذين فيها ثم طبقات العروق السواكن لأجل الدم وحده ثم جلدة الكف المعتدلة وأبرد ما في البدن البلغم ثم الشحم ثم الشعر ثم العظم ثم الغضروف ثم الرباط ثم وأما أرطب ما في البدن فالبلغم ثم الدم ثم السمين ثم الشحم ثم الدماغ ثم النخاع ثم لحم الثدي والأنثيين ثم الرئة ثم الكبد ثم الطحال ثم الكليتان ثم العضل ثم الجلد‏.‏

هذا هو الترتيب الذي رتبه ‏"‏ جالينوس ‏"‏‏.‏

ولكن يجب أن تعلم أن الرئة في جوهرها وغريزتها ليست برطبة شديدة الرطوبة لأن كل عضو شبيه في مزاجه الغريزي بما يتغذى به وشبيه في مزاجه العارض بما يفضل فيه‏.‏

ثم الرئة تغتذي من أسخن الدم وأكثره مخالطة للصفراء‏.‏

فعلمنا هذا ‏"‏ جالينوس ‏"‏ بعينه ولكنها قد يجتمع فيها فضل كثير من الرطوبة عما يتصعد من بخارات البدن وما ينحدر إليها من النزلات‏.‏

وإذا كان الأمر على هذا فالكبد أرطب من الرئة كثيراً في الرطوبة الغريزية‏.‏

والرئة أشد ابتلالاً وإن كان دوام الابتلال قد يجعلها أرطب في جوهرها أيضاً‏.‏

وهكذا يجب أن تفهم من حال البلغم والدم من جهة وهو أن ترطيب البلغم في أكثر الأمر هو على سبيل البل وترطيب الدم هو على سبيل التقرير في الجوهر‏.‏

على أن البلغم الطبيعي المائي قد يكون في نفسه أشد رطوبة‏.‏

فإن الدم بما يستوفي حظه من النضج يتحلل منه شيء كثير من الرطوبة التي كانت في البلغم المائي الطبيعي الذي استحال إليه‏.‏

فستعلم بعد أن البلغم الطبيعي دم استحال بعض الاستحالة‏.‏

وأما أيبس ما في البدن فالشّعر لأنه من بخار دخاني تحلل ما كان فيه من خلط البخار وانعقدت الدخانية الصرفة ثم العظم لأنه أصلب الأعضاء لكنه أصلب من الشعر لأن كون العظم من الدم ووضعه وضع نَشَاف للرطوبات الغريزية متمكن منها‏.‏

ولذلك ما كان العظم يغذو كثيراً من الحيوانات والشعر لا يغذو شيئاً منها أو عسى أن يغذو نادرا ‏"‏ من جملتها كما قد ظن من أن الخفافيش تهضمه وتسيغه‏.‏

لكنا إذا أخذنا قدرين متساويين من العظم والشعر في الوزن فقطرناهما في القرع والإنبيق سال من العظم ماء ودهن كثر وبقي له ثقل أقل‏.‏

فالعظم إذاً أرطب من الشعر‏.‏

وبعد العظم في اليبوسة الغضروف ثم الرباط ثم الوتر ثم الغشاء ثم الشرايين ثم الأوردة ثم عصب الحركة ثم القلب ثم عصب الحسّ‏.‏

فإن عصب الحركة أبرد وأيبس معاً كثيراً من المعتدل‏.‏

وعصب الحس أبرد وليسَ أيبس كثيراً من المعتدل بل عسى أن يكون قريباً منه وليس أيضاً كثير البعد منه في البرد ثم الجلد‏.‏

 الفصل الثالث أمزجة الأسنان والأجناس

الأسنان أربعة في الجملة‏:‏ سن النمو ويسمّى سن الحداثة وهو إلى قريب من ثلاثين سنة ثم سن الوقوف‏:‏ وهو سن الشباب وهو إلى نحو خمس وثلاثين سنة أو أربعين سنة وسن الانحطاط مع بقاء من القوة‏:‏ وهو سن المكتهلين وهو إلى نحو ستين سنة وسن الانحطاط مع ظهور الضعف في القوة‏:‏ وهو سن الشيوخ إلى آخر العمر‏.‏

لكن سن الحداثة ينقسم إلى‏:‏ سن الطفولة‏:‏ وهو أن يكون المولود بعد غير مستعد الأعضاء للحركات والنهوض وإلى سن الصبا‏:‏ وهو بعد النهوض وقبل الشدة وهو أن لا تكون الأسنان استوفت السقوط والنبات ثم سن الترعرع‏:‏ وهو بعد الشدة ونبات الأسنان قبل المراهقة ثم سن الغلامية والرهاق إلى أن يبقل وجهه‏.‏

ثم سن الفتى‏:‏ إلى أن يقفل النمو‏.‏

والصبيان أعني من الطفولة إلى الحداثة مزاجهم في الحرارة كالمعتدل وفي الرطوبة كالزائد ثم بين الأطباء الأقدمين اختلاف في حرارتي الصبي والشاب فبعضهم يرى أن حرارة الصبي أشد ولذلك ينمو أكثر وتكون أفعاله الطبيعية من الشهوة والهضم كذلك كثر وأدوم لأن الحرارة الغريزية المستفادة فيهم من المني أجمع وأحدث‏.‏

وبعضهم يرى أن الحرارة الغريزية في الشبان أقوى بكثير لأن دمهم أكثر وأمتن ولذلك يصيبهم الرُعاف أكثر وأشد ولأن مزاجهم إلى الصفراء أميل ومزاج الصبيان إلى البلغم أميل ولانهم أقوى حركات والحركة بالحرارة وهم أقوى استمراء وهضماً وذلك بالحرارة‏.‏

وأما الشهوة فليست تكون بالحرارة بل بالبرودة ولهذا ما تحدث الشهوة الكلبية في أكثر الأمر من البرودة والدليل على أن هؤلاء أشد استمراء أنه لا يصيبهم من التهوع والقيء والتخمة ما يعرض للصبيان لسوء الهضم‏.‏

والدليل على أن مزاجهم أميل إلى الصفراء هو أن أمراضهم حارة كلها كحمى الغب وقيئهم صفراوي‏.‏

وأما أكثر أمراض الصبيان فإنها رطبة باردة وحمياتهم بلغمية وأكثر ما يقذفونه بالقيء بلغم‏.‏

وأما النمو في الصبيان فليس من قوة حرارتهم ولكن لكثرة رطوبتهم وأيضاً فإن كثرة شهوتهم تدلّ على نقصان حرارتهم‏.‏

هذا مذهب الفريقين واحتجاجهما‏.‏

وأما ‏"‏ جالينوس ‏"‏ فإنه يرد على الطائفتين جميعاً وذلك أنه يرى الحرارة فيهما متساوية في الأصل لكن حرارة الصبيان أكثر كمية وأقل كيفية أي حدة‏.‏

وحرارة الشبان أقل كمية وأكثر كيفية أي حدّة‏.‏

وبيان هذا على ما يقوله فهو أن يتوهم أن حرارة واحدة بعينها في المقدار أو جسماً لطيفاً حاراً واحدا ‏"‏ في الكيف والكم فشا تارة في جوهر رطب كثير كالماء وفشا أخرى في جوهر يابس قليل كالحجر وإذا كان كذلك فإنا نجد حينئذ الماء الحار المائي أكثر كمية وألين كيفية والحار الحجري أقل كمية وأحدّ كيفية‏.‏

وعلى هذا فقس وجود الحار في الصبيان والشبان فإن الصبيان إنما يتولدون من المني الكثير الحرارة وتلك الحرارة لم يعرض لها من الأسباب ما يطفئها‏.‏

فإن الصبي ممعن في التزيّد ومتدرّج في النمو ولم يقف بعد فكيف يتراجع‏.‏

وأما الشاب فلم يقع له سبب يزيد في حرارته الغريزية ولا أيضاً وقع له سبب يطفئها بل تلك الحرارة مستحفظة فيه برطوبة أقل كمية وكيفية معاً إلى أن يأخذ في الانحطاط‏.‏

وليست قلة هذه الرطوبة تعد قلةً بالقياس إلى استحفاظ الحرارة ولكن بالقياس إلى النمو فكأن الرطوبة تكون أولا بقدر يفي به كلا الأمرين فيكون بقدر ما نحفظ الحرارة وتفضل أيضاً النمو ثم تصير بآخرة بقدر لا يفي به كلا الأمرين ثم تصير بقدر لا يفي ولا بأحد الأمرين فيجب أن يكون في الوسط بحيث يفي بأحد الأمرين دون الآخر‏.‏

ومحال أن يقال أنها تفي بالتنمية ولا تفي بحفظ الحرارة الغريزية فإنه كيف يزيد على الشيء ما ليس يمكنه أن يحفظ الأصل فبقي أن يكون إنما يفي بحفظ الحرارة الغريزية ولا يفي بالنمو‏.‏

ومعلوم أن هذا السن هو سن الشباب‏.‏

وأما قول الفريق الثاني‏:‏ أن النمو في الصبيان إنما هو بسبب الرطوبة دون الحرارة فقول باطل‏.‏

وذلك لأن الرطوبة مادة للنمو والمادة لا تنفعل ولا تتخلق بنفسها بل عند فعل القوة الفاعلة فيها والقوة الفاعلة ههنا هي نفس أو طبيعة بإذن الله عز وجل ولا تفعل إلاَّ بآلة هي الحرارة الغريزية‏.‏

وقولهم أيضاً‏:‏ إن قوة الشهوة في الصبيان إنما هي لبرد المزاج قول باطل‏.‏

فإن تلك الشهوة الفاسدة التي تكون لبرد المزاج لا يكون معها استمراء واغتذاء‏.‏

والاستمراء في الصبيان في أكثر الأوقات على أحسن ما يكون ولولا ذلك لما كانوا يوردون من البدل الذي هو الغذاء أكثر مما يتحلل حتى ينمو ولكنهم قد يعرض لهم سوء استمرائهم لشرههم وسوء تربيتهم لمطعومهم وتناولهم الأشياء الرديئة والرطبة والكثيرة وحركاتهم الفاسدة عليها فلهذا تجتمع فيهم فضول أكثر ويحتاجون إلى تنقية أكثر وخصوصاً رئاتهم ولذلك نبضهم أشد تواتراً وسرعة وليس له عظم لأن قوتهم لم تتم‏.‏

فهذا هو القول في مزاج الصبي والشاب على حسب ما تكفل ‏"‏ جالينوس ‏"‏ ببيانه وعبرنا عنه‏.‏

ثمِّ يجب أن تعلم أن الحرارة بعد مدة سنّ الوقوف تأخذ في الإنتقاص لانتشاف الهواء المحيط مادتها التي هي الرطوبة ومعاونة الحرارة الغريزية التي هي أيضاً من داخل ومعاضدة الحركات البدنية والنفسانية الضرورية في المعيشة لها وعجز الطبيعة عن مقاومة ذلك دائماً فإنّ جميع القوى الجسمانيّة متناهية‏.‏

فقد تبين ذلك في العلم الطبيعي فلا يكون فعلها في الإيراد دائماً‏.‏

فلو كانت هذه القوى أيضاً غير متناهية وكانت دائمة الإيراد ليدلّ ما يتحلّل على السواء بمقدار واحد ولكن كان التحلل ليس بمقدار واحد بل يزداد دائما كل يوم لما كان البدل يقاوم التحلّل ولكن التحلل يفني الرطوبة فكيف والأمر أن كلاهما متظاهران أن على تهيئة النقصان والتراجع وإذ كان كذلك فواجب ضرورة أن يفنى المادة بل يطفىء الحرارة وخصوصاَّ إذا كان يعين انطفاءها بسبب عون المادة سبب آخر وهو الرطوبة الغريبة التي تحدث دائماً لعدم بدل الغذاء الهضم فيعين على انطفائها من وجهين أحدهما بالخنق والغمر والآخر بمضادة الكيفية لأن تلك الرطوبة تكون بلغمية باردة وهذا هو الموت الطبيعي المؤجل لكل شخص بحسب مزاجه ولكل منهم أجل مسمى ولكل أجل كتاب وهو مختلف في الأشخاص لاختلاف الأمزجة فهذه هي الآجال الطبيعية وههنا آجال اخترامية غيرها وهي أخرى وكل بقدر فالحاصل إذاً من هذا أن أبدان الصبيان والشبان حارة باعتدال وأبدان الكهول والمشايخ باردة‏.‏

ولكن أبدان الصبيان أرطب من المعتدل لأجل النمو ويدل عليه التجربة وهي من لين عظامهم وأعصابهم‏.‏

والقياس وهو من قرب عهدهم بالمني والروح البخاري‏.‏

وأما الكهول والمشايخ خصوصاً فإنهم مع أنهم أبرد فهم أيبس يعلم ذلك بالتجرية من صلابة عظامهم ونشف جلودهم وبالقياس من بعد عهدهم بالمني والدم والروح البخاري‏.‏

ثم النارية متساوية في الصبيان والشبان والهوائية والمائية في الصبيان أكثر والأرضية في الكهول والمشايخ أكثر منها فيهما وهي في مشايخ أكثر‏.‏

والشاب معتدل المزاج فوق اعتدال الصبي لكنه بالقياس إلى الصبي يابس المزاج وبالقياس إلى الشيخ والكهل حار المزاج والشيخ أيبس من الشاب والكهل في مزاج أعضائه الأصلية وأرطب منهما بالرطوبة الغريبة البالَة‏.‏

وأما الأجناس في اختلاف أمزجتها فإن الإناث أبرد أمزجة من الذكور ولذلك قصرن عن الذكور في الخلق وأرطب فلبرد مزاجهن تكثر فضولهن ولقلة رياضتهن جوهر لحومهن أسخف وإن كان لحم الرجل من جهة تركيبه بما يخالطه أسخف فإنه لكثافته أشد تبرداً مما ينفذ فيه من العروق وليف العصب‏.‏

وأهل البلاد الشمالية أرطب وأهل الصناعة المائية أرطب‏.‏

والذين يخالفونهم فعلى الخلاف وأما علامات الأمزجة فسنذكرها حيث نذكر العلامات الكلية والجزئية‏.‏

 التعليم الرابع الأخلاط

وهو فصلان

 الفصل الأول ماهية الخلط وأقسامه

الخلط‏:‏ جسم رطب سيال يستحيل إليه الغذاء أولاً فمنه خلط محمود وهو الذي من شأنه أن يصير جزءاَ من جوهر المغتذي وحده أو مع غيره ومتشبهاً به وحده أو مع غيره‏.‏

وبالجملة سادًا بدل شيء مما يتحلل منه ومنه فضل وخلط رديء وهو الذي ليس من شأنه ذلك أو يستحيل في النادر إلى الخلط المحمود ويكون حقه قبل ذلك أن يدفع عن البدن وينفض‏.‏

ونقول‏:‏ إن رطوبات البدن منها أولى ومنها ثانية‏.‏

فالأولى‏:‏ هي الأخلاط الأربعة التي نذكرها‏.‏

والثانية‏:‏ قسمان‏:‏ إما فضول وإما غير فضول‏.‏

والفضول سنذكرها‏.‏

والتي ليست بفضول هي التي استحالت عن حالة الابتداء ونفذت في الأعضاء إلا أنها لم تصر جزء عضو من الأعضاء المفردة بالفعل التام وهي أصناف أربعة‏:‏ أحدها الرطوبة المحصورة في تجاويف أطراف العروق والثانية‏:‏ الرطوبة التي هي منبثّة في الأعضاء الأصلية بمنزلة الطلّ وهي مستعدّة لأن تستحيل غذاء إذا فقد البدن الغذاء ولأنْ تَبُل الأعضاء إذا جفّفها سبب من حركة عنيفة أو غيرها‏.‏

والثالثة‏:‏ الرطوبة القريبة العهد بالانعقاد فهي غذاء استحال إلى جوهر الأعضاء من طريق المزاج والتشبيه ولم تستحل بعد من طريق القوام التام‏.‏

والرابعة‏:‏ الرطوبة المداخلة للأعضاء الأصلية منذ ابتداء النُشُوّ التي بها اتصال أجزائها ومبدؤها من النطفة ومبدأ النطفة من الأخلاط‏.‏

ونقول أيضاً‏:‏ إن الرطوبات الخلطية المحمودة والفضلية تنحصر في أربعة أجناس‏:‏ جنس الدم وهو أفضلها وجنس البلغم وجنس الصفراء وجنس السوداء‏.‏

والدم‏:‏ حار الطبع رطبه وهو صنفان‏:‏ طبيعي وغير طبيعي والطبيعي‏:‏ أحمر اللون لا نتن له حلو جداً‏.‏

وغير الطبيعي‏:‏ قسمان فمنه ما قد تغيّر عن المزاج الصالح لا بشيء خالطه ولكن بأن ساء مزاجه في نفسه فبرد مزاجه مثلا ‏"‏ أو سخن ومنه ما إنما تغيّر بأن حصل خلط رديء فيه وذلك قسمان‏:‏ فإنه إما أن يكون الخلط ورد عليه من خارج فنفذ فيه فأفسده وإما أن يكون الخلط تولّد فيه نفسه مثلاً بأن يكون عفن بعضه فاستحال الطبقة مُرَة صفراء وكثيفه مرَة سوداء وبقيا أو أحدهما فيه وهذا القسم بقسميه مختلف بحسب ما يخالطه‏.‏

وأصنافه من أصناف البلغم وأصناف السوداء وأصناف الصفراء والمائية فيصير تارة عكراً وتارة رقيقاً وتارة أسود شديد السواد وتارة أبيض وكذلك يتغير في رائحته وفي طعمه فيصير مرًا ومالحاً وإلى الحموضة‏.‏

وأما البلغم‏:‏ فمنه طبيعي أيضاً ومنه غير طبيعي‏.‏

والطبيعي‏:‏ هو الذي يصلح أن يصير في وقت ما دماً لأنه دم غير تام النضج وهو ضرب من البلغم والحلو وليس هو بشديد البرد بل هو بالقياس إلى البدن قليل البرد بالقياس إلى الدم والصفراء بارد وقد يكون من البلغم الحلو ما ليس بطبيعي وهو البلغم الذي لا طعم له الذي سنذكره إذا اتفق أن خالطه دم طبيعي‏.‏

وكثيراً ما يحس به في النوازل وفي النفث وأما الحلو الطبيعي فإن ‏"‏ جالينوس ‏"‏ زعم أن الطبيعة إنما لم تعد له عضواً كالمفرغة مخصوصاً مثل ما للمرتين لأن هذا البلغم قريب الشبه من الدم وتحتاج إليه الأعضاء كلها فلذلك أجري مجرى الدم ونحن نقول‏:‏ إن تلك الحاجة هي لأمرين‏:‏ أحدهما ضرورة والآخر منفعة أما الضرورة فلسببين‏:‏ أحدهما‏:‏ ليكون قريباً من الأعضاء فمتى فقدت الأعضاء الغذاء الوارد إليها صار دماً صالحاً لاحتباس مدده من المعدة والكبد ولأسباب عارضة أقبلت عليه قواها بحرارته الغريزية فأنضجته وهضمته وتغذت به وكما أن الحرارة الغريزية تنضجه وتهضمه وتصلحه دماً فكذلك الحرارة الغريبة قد تعفنه وتفسده‏.‏

وهذا القسم من الضرورة ليس للمرَتين فإن المرَتين لا تشاركان البلغم في أن الحار الغريزي يصلحه دماً وإن شاركناه في أن الحار العرضي يحيله عفناً فاسداً‏.‏

والثاني‏:‏ ليخالط الدم فيهيئه لتغذية الأعضاء البلغمية المزاج التي يجب أن يكون في دمها الغاذيها بلغم بالفعل على قسط معلوم مثل الدماغ وهذا موجود للمرّتين وأما المنفعة فهي أن تبلّ المفاصل والأعضاء الكثيرة الحركة فلا يعرض لها جفاف بسبب حركة العضو وبسبب الاحتكاك وهذه منفعة واقعة في تخوم الضرورة‏.‏

وأما البلغم الغير الطبيعي فمنه فضلي مختلف القوام حتى عند الحس وهو المخاطي ومنه مستوي القوام في الحس مختلفة في الحقيقة وهو الخام ومنه الرقيق جد ‏"‏ ا وهو المائي منه ومنه الغليظ جدًا ‏"‏ وهو الأبيض المسمى بالجصي وهو الذي قد تحلل لطبقة لكثرة احتباسه في المفاصل والمنافذ وهو أغلظ الجميع ومن البلغم صنف مالح وهو أحر ما يكون من البلغم وأيبسه وأجفه وسبب كل ملوحة تحدث أن تخالط رطوبة مائية قليلة الطعم أو عديمته أجزاء أرضية محترقة يابسة المزاج مرة الطعم مخالطة باعتدال فإنها إن كثرت مررت‏.‏

ومن هذا تتولد الأملاح وتملح المياه‏.‏

وقد يصنع الملح من الرماد والقلي والنورة وغير ذلك بأن يطبخ في الماء ويصفى ويغلى ذلك الماء حتى ينعقد ملحاً أو يترك بنفسه فينعقد وكذلك البلغم الرقيق الذي لا طعم له أو طعمه قليل غير غالب إذا خالطته مرة يابسة بالطبع محترقة مخالطة باعتدال ملحته وسخنته فهذا بلغم صفراوي‏.‏

وأما الحكيم الفاضل ‏"‏ جالينوس فقد قال‏:‏ إن هذا البلغم يملح لعفونته أو لمائية خالطته‏.‏

ونحن نقول‏:‏ إن العفونة تملّحه بما تحدث فيه من الاحتراق والرمادية فتخالط رطوبته‏.‏

وأما المائية التي تخالطه فلا تحدث الملوحة وحدها إذا لم يقع السبب الثاني - ويشبه أن يكون بدل أو القاسمة الواو الواصلة وحدها فيكون الكلام تاماً‏.‏

ومن البلغم حامض‏.‏

وكما أن الحلو كان على قسمين‏:‏ حلو لأمر في ذاته وحلو لأمر غريب مخالط كذلك الخامض أيضاً تكون حموضته على قسمين‏:‏ أحدهما بسبب مخالطة شيء غريب وهو السوداء الحامض الذي سنذكره‏.‏

والثاني بسبب أمر في نفسه وهو أن يعرض للبلغم الحلو المذكور أو ما هو في طريق الحلاوة ما يعرض لسائر العصارات الحلوة من الغليان أولاً ثم التحميض ثانياً ومن البلغم أيضاً عفص وحاله هذه الحال فإنه ربما كانت عفوصته لمخالطة السوداء العفص وربما كانت عفوصته بسبب تبرده في نفسه تبرداً شديداً فيستحيل طعمه إلى العفوصة لجمود مائيته واستحالته لليبس إلى الأرضية قليلاً فلا تكون الحرارة الضعيفة أغلته فحمضته ولا القوية أنضجته‏.‏

ومن البلغم نوع زجاجي ثخين غليظ يشبه الزجاج الذائب في لزوجته وثقله وربما كان حامضاً وربما كان مسيخاً ويشبه أن يكون الغليظ من المسيخ منه هو الخام أو يستحيل إلى الخام وهذا النوع من البلغم هو الذي كان مائياً في أول الأمر بارداً فلم يعفن ولم يخالطه شيء بل بقي مخنوقاً حتى غلظ وازداد برداً‏.‏

‏!‏ فقد تبين إذاً أن أقسام البلغم الفاسد من جهة طعمه أربعة‏:‏ مالح وحامض وعفص و مسيخ‏.‏

ومن جهة قوامه أربعة‏:‏ مائي وزجاجي ومخاطي وجصّي‏.‏

والخام في إعداد المخاطي‏.‏

وأما الصفراء‏:‏ فمنها أيضاً طبيعي ومنها فضل غير طبيعي والطبيعي منها‏:‏ هو رغوة الدم وهو أحمر اللون ناصعه خفيف حاد وكلما كان أسخن فهو أشد حمرة فإذا تولد في الكبد انقسم قسمين‏:‏ فذهب قسم منه مع الدم وتصفَى قسم منه إلى المرارة‏.‏

والذاهب منه مع الدم يذهب معه لضرورة ومنفعة أما الضرورة فلتخالط الدم في تغذية الأعضاء التي تستحق أن يكون في مزاجها جزء صالح من الصفراء وبحسب ما يستحقه من القسمة مثل الرئة وأما المنفعة فلأن تلطف الدم وتنفذه في المسالك الضيقة والمتصفى منه إلى المرارة يتوجه أيضاً نحو ضرورة ومنفعة أما الضرورة فإما بحسب البدن كله فهي تخليصه من الفضل وإما بحسب عضو منه فهي لتغذية المرارة‏.‏

وأما المنفعة فمنفعتان‏:‏ إحداهما غسلها المعي من الثفل والبلغم اللزج والثانية لذعها المعي ولذعها عضل المقعدة لتحس بالحاجة وتحوج إلى النهوض للتبرز‏.‏

ولذلك ربما عرض قولنج وأما الصفراء الغير الطبيعي‏:‏ فمنها ما خروجه من الطبيعة بسبب غريب مخالط ومنها ما خروجه عن الطبيعة بسبب في نفسه بأنه في جوهره غير طبيعي‏.‏

والقسم الأول منه ما هو معروف مشهور وهو الذي يكون الغريب المخالط له بلغماً وتولده في أكثر الأمر في الكبد ومنه ما هو أقل شهرة وهو الذي يكون الغريب المخالط له سوداء والمعروف المشهور هو إما المرة الصفراء وإما المرّة المحية وذلك لأن البلغم الذي يخالطه ربما كان رقيقاً فحدث منه الأولى وربما كان غليظاً فحدثت منه الثانية أي الصفراء الشبيهة بمح البيض‏.‏

وأما الذي هو أقل شهرة فهو الذي يسمى صفراء محترقة‏.‏

وحدوثه على وجهين‏:‏ أحدهما أن تحترق الصفراء في نفسها فيحدث فيها رمادية فلا يتميز لَطِيفُها من رماديتها بل تحتبس الرمادية فيها وهذا شر وهذا القسم يسقى صفراء محترقة‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون السوداء وردت عليه من خارج فخالطته وهذا أسلم‏.‏

ولون هذا الصنف من الصفراء أحمر لكنه غير ناصع ولا مشرق بل أشبه بالدم إلا أنه رقيق وقد يتغير عن لونه لأسباب‏.‏

وأما الخارج عن الطبيعة في جوهره فمنه ما تولّد أكثر ما يتولد منه في الكبد ومنه ما تولّد أكثر ما يتولّد منه في المعدة والذي تولد أكثر ما يتولد منه في الكبد هو صنف واحد وهو اللطيف من الدم إذا احترق وبقي كثيفه سوداء والذي تولّد أكثر ما يتولد منه مما هو في المعدة هو على قسمين‏:‏ كرّاثي وزنجاري والكرّاثي يشبه أن يكون متولداً من احتراق المحّي فإنه إذا احترق أحدث فيها الاحتراق سواداً وخالط الصفرة فتولّد فيما بين ذلك الخضرة‏.‏

وأما الزنجاري فيشبه أن يكون متولداً من الكرَاثي إذا اشتد احتراقه حتى فنيت رطوباته وأخذ يضرب إلى البياض لتجفّفه فإن الحرارة تحدث أوَلاً في الجسم الرطب سواداً ثم يسلخ عنه السواد إذا جعلت تفني رطوبته وإذا أفرطت في ذلك بيضَتْهُ‏.‏

تأمل هذا في الحطب يتفحم أوَلا ‏"‏ ثم يترمد وذلك لأن الحرارة تفعل في الرطب سواداً وفي ضده بياضاً‏.‏

والبرودة تفعل في الرطب بياضاً وفي ضده سواداً‏.‏

وهذان الحكمان مني في الكراثي والزنجاري تخمين‏.‏

وهذا النوع الزنجاري أسخن أنواع الصفراء وأردؤها وأقتلها‏.‏

ويقال إنه من جوهر السمون وأما السوداء فمنها ما هو طبيعي ومنها فضل غير طبيعي‏.‏

والطبيعي دردي الدم المحمود وثفله وعكره‏.‏

وطعمه بين حلاوة وعفوصة‏.‏

وإذا تولد في الكبد توزعّ إلى قسمين‏:‏ فقسم منه ينفذ مع الدم وقسم يتوجَّه نحو الطحال‏.‏

والقسم النافذ منه مع الدم ينفذ لضرورة ومنفعة‏.‏

أما الضرورة فليختلط بالدم بالمقدار الواجب في تغذية عضو من الأعضاء التي يجب أن يقع في مزاجها جزء صالح من السوداء مثل العظام‏.‏

وأما المنفعة فهي أنه يشد الدم ويقويه ويكثفه ويمنعه من التحلل‏.‏

والقسم النافذ منه إلى الطحال وهو ما استغنى عنه الدم ينفذ أيضاً لضرورة ومنفعة‏.‏

أما الضرورة فإما بحسب البدن كله وهي التنقية عن الفضل وأما بحسب عضو وهي تغذية الطحال‏.‏

وأما المنفعة فإنما تقع عند تحلّلها إلى فم المعدة وتلك المنفعة على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها تشد فم المعدة وتكثّفه وتقوّيه والثاني‏:‏ أنها تدغدغ فم المعدة بالحموضة فتنبه على الجوع وتحرك الشهوة‏.‏

واعلم أن الصفراء المتحلبة إلى المرارة هي ما يستغني عنه الدم‏.‏

والمتحلبة عن المرارة هي ما تستغني عنه المرارة‏.‏

وكذلك السوداء المتحلّبة إلى الطحال هي ما يستغني عنه الدم‏.‏

والمتحلّبة عن الطحال هي ما يستغني عنه الطحال‏.‏

وكما أن تلك الصفراء الأخيرة تنبه القوة الدافعة من أسفل كذلك هذه السوداء الأخيرة تنبّه القوة الجاذبة من فوق فتبارك اللّه أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين‏.‏

وأما السوداء الغير الطبيعية‏:‏ فهي ما ليس على سبيل الرسوب والثفلية بل على سبيل الرمادية والاحتراق فإن الأشياء الرطبة المخالطة للأرضية تتميّز الأرضية منها على وجهين‏:‏ إما على جهة الرسوب ومثل هذا الدم هو السوداء الطبيعي وإما على جهة الاحتراق بأن يتحلّل اللطيف ويبقى الكثيف‏.‏

ومثل هذا الدم والأخلاط هو السوداء الفضلية تسمّى المرة السوداء وإنما لم يكن الرسوب إلا للدم لأن البلغم للزوجته لا يرسب عنه شئ كالثفل‏.‏

والصفراء للطافتها وقلة الأرضية فيها ولدوام حركتها ولقلّة مقدار ما يتميز منها عن الدم في البدن لا يرسب منها شيء يعتدّ به وإذا تميّز لم يلبث أن يعفن أو يندفع وإذا عفن تحلل لطيفه وبقي كثيفه سوداء احتراقية لا رسوبية‏.‏

والسوداء الفضلية‏:‏ منها ما هو رماد الصفراء وحراقتها وهو مرّ والفرق بينه وبين الصفراء التي سميناها محترقة هو أن تلك الصفراء يخالطها هذا الرماد وأما هذا فهو رماد متميز بنفسه تحلّل لطيفه ومنها ما هو رماد البلغم وحراقته فإن كان البلغم لطيفاً جداً مائيا ‏"‏ فإن رماديته تكون إلى الملوحة وإلا كانت إلى حموضة أو عفوصة ومنها ما هو رماد الدم وحراقته وهذا مالح إلى حلاوة يسيرة ومنها ما هو رماد السوداء الطبيعية فإن كانت رقيقة كان رمادها وحراقتها شديدة الحموضة كالخل يغلي على وجه الأرض حامض الريح ينفر عنه الذباب ونحوه وإن كانت غليظة كانت أقل حموضة ومع شيء من العفوصة والمرارة فأصناف السوداء الرديئة ثلاثة‏:‏ الصفراء إذا احترقت وتحلل لطيفها وهذان القسمان المذكوران بعدها‏.‏

وأما السوداء البلغمية‏:‏ فأبطأ ضرراً وأقل رداءة‏.‏

وتترتّب هذه الأخلاط الأربعة إذا احترقت في الرداءة‏.‏

فالسوداء أشدها وأشدها غائلة‏.‏

وأسرعها فساداً هو الصفراوية لكنها أقبلها للعلاج‏.‏

وأما القسمان الآخران فإن الذي هو أشد حموضة أردأ ولكنه إذا تدورك في ابتدائه كان أقبل للعلاج وأما الثالث فهو أقل غلياناً على الأرض وتشبثاَ بالأعضاء وأبطأ مدة في انتهائه إلى الإهلاك ولكنه قال ‏"‏ جالينوس ‏"‏ ولم يصب من زعم أن الخلط الطبيعي هو الدم لا غير وسائر الأخلاط فضول لا يحتاج إليها البتّة وذلك لأن الدم لو كان وحده هو الخلط الذي يغذو الأعضاء لتشابهت في الأمزجة والقوام ولما كان العظم أصلب من اللحم إلا ودَمُهُ دَم مازَجَهُ جوهر صلب سوداوي ولما كان الدماغ ألين منه إلا وإن دمه دم مازجه جوهر ليّن بلغمي والدم نفسه تجده مخالطاً لسائر الأخلاط فينفصل عنها عند إخراجه وتقريره في الإناء بين يدي الحسّ إلى جزء كالرغوة هو الصفراء وجزء كبياض البيض هو البلغم وجزء كالثفل والعكر هو والسوداء وجزء مائي هو المائية التي يندفع فضلها في البول والمائية ليست من الأخلاط لأن المائية هي من المشروب الذي لا يغذو وإنما الحاجة إليها لترقق الغذاء وتنفذه وأما الخلط فهو من المأكول والمشروب الغاذي ومعنى قولنا غادّ أي هو بالقوة شبيه بالبدن والذي هو بالقوة شبيه بدن الإنسان هو جسم ممتزج لا بسيط والماء هو بسيط ومن الناس من يظن أن قوة البدن تابعة لكثرة الدم وضعفه تابع لقلته وليس كذلك بل المعتبر حال رزء البدن منه أي حال صلاحه ومن الناس من يظن أن الأخلاط إذا زادت أو نقصت بعد أن تكون على النسبة التي يقتضيها بدن الإنسان في مقادير بعضها عند بعض فإن الصحة محفوظة وليس كذلك بل يجب أن يكون لكل واحد من الأخلاط مع ذلك تقدير في الكم محفوظ ليس بالقياس إلى خلط آخر بل في نفسه مع حفظ التقدير الذي بالقياس إلى غيره‏.‏

وقد بقي في أمور الأخلاط مباحث ليست تليق بالأطباء أن يبحثوا فيها إذ ليست من صناعتهم بل بالحكماء فأعرضنا عنها‏.‏

 الفصل الثاني كيفية تولد الأخلاط

فاعلم أن الغذاء له انهضام إما بالمضغ وذلك بسبب أن سطح الفم متصل بسطح المعدة بل كأنّهما سطح واحد وفيه منه قوة هاضمة فإذا لاقى الممضوغ أحاله إحالة ما ويعينه على ذلك الريق المستفيد بالنضج الواقع فيه حرارة غريزية ولذلك ما كانت الحنطة الممضوغة تفعل من إنضاج الدماميل والخراجات ما لا تفعله المدقوقة بالماء والمطبوخة فيه‏.‏

قالوا‏:‏ والدليل على أن الممضوغ قد بدا فيه شيء من النضج أنه لا يوجد فيه الطعم الأول ولا رائحته الأولى ثم إذا ورد على المعدة انهضم الانهضام التام لا بحرارة المعدة وحدها بل بحرارة ما يطيف بها أيضاً أما من ذات اليمين فالكبد وأما من ذات اليسار الطحال فإن الطحال قد يسخن لا بجوهره بل بالشرايين والأوردة الكثيرة التي فيه وأما من قدام فبالثرب الشخمي القابل للحرارة سريعاً بسبب الشحم المؤدّيها إلى المعدة وإما من فوق فالقلب يتوسط تسخينه للحجاب فإذا انهضم الغذاء أوّلاً صار بذاته‏.‏

في كثير من الحيوان وبمعونة ما يخالطه من المشروب في أكثرها كيلوساً وهو جوهر سيال شبيه بماء الكشك الثخين أو ماء الشعير ملاسة وبياضاً ثم إنه بعد ذلك ينجذب لطيفه من المعدة ومن الأمعاء أيضاَ فيندفع من طريق العروة المسماة ماساريقا وهي عروق دقاق صلاب متصلة بالأمعاء كلها فإذا اندفع فيها صار إلى العرق المسمى باب الكبد ونفذ في الكبد في أجزاء وفروع للباب داخلة متصغرة مضائلة كالشعر ملاقية لفوهات أجزاء أصول العرق الطالع من حدبة الكبد‏.‏

وإن تنفذه في تلك المضايق فينا الأفضل مزاج من الماء مشروب فوق المحتاج إليه للبدن فإذا تفرق في ليف هذه العروق صار كأن الكبد بكليتها ملاقية لكلية هذا الكيلوس وكان لذلك فعلها فيه أشد وأسرع وحينئذ ينطبخ وفى كل انطباخ لمثله شيء كالرغوة وشيء كالرسوب‏.‏

وربما كان معهما إما شيء هو إلى الاحتراق إن أفرط الطبخ أو شيء كالفج إن قصر الطبخ فالرغوة هي الصفراء والرسوب هي السوداء وهما طبيعيان‏.‏

والمحترق لطيفه صفراء رديئة وكثيفه سوداء رديئة غير طبيعيين‏.‏

والفج هو البلغم‏.‏

وأما الشيء المتصفي من هذه الجملة نضيجاً فهو الدم إلا أنه بعد ما دام في الكبد يكون أرق مما ينبغي لفضل المائية المحتاج إليها للعلة المذكورة ولكن هذا الشيء الذي هو الدم إذا انفصل عن الكبد فكما ينفصل عنه يتصفى أيضاً عن المائية الفضلية التي إنما احتيج إليها لسبب وقد ارتفع فتنجذب هي عنه في عرق نازل إلى الكليتين ويحمل مع نفسه من الدم ما يكون بكميته وكيفيته صالحاً لغذاء الكليتين فيغذو الكليتين الدسومة والدموية من تلك المائية ويندفع باقيها إلى المثانة والى الإحليل‏.‏

وأما الدم الحسن القوام فيندفع في العرق الطالع من حدبة الكبد ويسلك في الأوردة المتشعبة منه ثم في جداول الأوردة ثم في سواقي الجداول ثم في رواضع السواقي ثم في العروق الليفية الشعرية ثم يرشح من فوهاتها في الأعضاء بتقدير العزيز العليم‏.‏

فسبب الدم الفاعلي هو حرارة معتدلة وسببه المادي هو المعتدل من الأغذية والأشربة الفاضلة وسببه الصوري النضج الفاضل وسببه التمامي تغذية البدن‏.‏

والصفراء سببها الفاعلي أما الطبيعي منها الذي هو رغوة الدم فحرارة معتدلة وأما للمحترقة منها فالحرارة النارية المفرطة وخصوصاً في الكبد وسببها المادي هو اللطيف الحار والحلو الدسم‏.‏

والحريف من الأغذية وسببها الصوري مجاوزة النضج إلى الإفراط وسببها التمامي الضرورة والمنفعة المذكورتان‏.‏

والبلغم سببه الفاعلي حرارة مقصرة وسببه المادّي الغليظ الرطب اللزج البارد من الأغذية‏.‏

وسببه الصوري قصور النضج وسببه التمامي ضرورته ومنفعته المذكورتان‏.‏

والسوداء سببها الفاعلي‏.‏

أما الرسوبي منها فحرارة معتدلة‏.‏

وأما المحترق منها فحرارة مجاوزة للاعتدال وسبهها المادي الشديد الغلظ القليل الرطوبة من الأغذية والحار منها قوي في ذلك وسببها الصوري الثفل المترسب على أحد الوجهين فلا يسيل أو لا يتحلل وسببها التمامي ضرورتها ومنفعتها المذكورتان‏.‏

والسوداء تكثر لحرارة الكبد أو لضعف الطحال أو لشدة برد مجمد أو لدوام احتقان أو لأمراض كثرت وطالت فرمدت الأخلاط‏.‏

وإذا كثرت السوداء ووقفت بين المعدة والكبد قل معها تولد الدم والأخلاط الجيدة فقلّ الدم‏.‏

ويجب أن تعلم أن الحرارة والبرودة سببان لتولد الأخلاط مع سائر الأسباب لكن الحرارة المعتدلة يولّد الدم والمفرطة تولد الصفراء والمفرطة جدًّا تولد السوداء بفرط الاحتراق والبرودة تولد البلغم والمفرطة جدًا تولد السوداء بفرط الإجماد ولكن يجب أن تراعى القوى المنفعلة بإزاء القوى الفاعلة وليس يجب أن يقف الاعتقاد على أن كل مزاج يولد الشبيه به ولا يولد الضّد بالعرض وإن لم يكن بالذات فإن المزاج قد يتفق له كثيراً أن يولد الضد فإن المزاج البارد اليابس يولد الرطوبة الغريبة لا للمشاكلة ولكن لضعف الهضم ومثل هذا الإنسان يكون نحيفاً رخو المفاصل أذعر الفصل التاسع في أحوال الأدوية المسهّلة من الأدوية المسهلة ما غائلته عظيمة مثل الخربق الأسود ومثل التُرْبُد إذا لم يكن أبيض جيداً بل كان من جنس الأصفر ومثل الغاريقون إذا لم يكن أبيض خالصاً بل كان إلى السواد وكالمازريون فإن هذه الأشياء رديئة فإذا اتفق شرب شيء من ذلك وعرضت أعراض رديئة فالصواب أن يدفع الدواء عن البدن ما أمكن بقيء أو إحدار وليعالج بالترياق وكثيراً منها ما يدفع شرّه وإفساده للنفس بسقي الماء البارد جداً والجلوس فيه كالتربد الأصفر والعفن وبكل ما يكسر الحدة أيضاً بتغرية وتليين ودسومة فيها غروية فينفع من ذلك‏.‏

وقد يناسب بعض الأدوية بعض الأمزجة ولا يناسب بعضها فإن السقمونيا لا يعمل في أهل البلدان الباردة إلا فعلاً ضعيفاً ما لم يستعمل منه مقدار كثير كعادته في بلاد الترك وربما احتيج في بعض البلدان والأبدان إلى أن لا يستعمل أجرام الأدوية بل قواها‏.‏

ومن الواجب أن يخلط بالأدوية المسهلة الأدوية العطرية ليحفظ بها قوى الأعضاء والأدوية الطيبة حسنة الموقع من ذلك لأنها تقوي الروح الحيواني في كل عضو‏.‏

وأكثرها معين بتلطيفه وتسييله وقد يجتمع دواءان‏:‏ أحدهما سريع الإسهال لخلطه والآخر بطيء فيفرغ الأول من فعله قبل ابتداء الثاني في فعله وقد يزاحم الثاني في خلطه أيضاً مزاحمة تكسر قوته وإذا ابتدأ الثاني بعده كان ضعيف القوة محركاً غير بالغ فيجب أن يركب معه ما يستعمله بسرعة كالزنجبيل للتربد فإنه لا يدعه يتبلد إلى حين ولذلك جوذب الخلط بينهما‏.‏

ويجب أن تتأمل أصولاً بيّناها في قوى الأدوية المسهّلة حيث تكلّمنا في أصول كلية للأدوية المفردة‏.‏

والدواء المسهل قد يسهل بالتحليل مع خاصية كالتربد وقد يسهل بالعصر مع خاصية كالهليلج وقد يسهل بالتليين مع خاصية كالشيرخشك وقد يسهل بالإزلاق كلعاب بزرقطونا والإجاص‏.‏

وأكثر الأدوية القوية فيها سمية ما فيسهل على سبيل قسر الطبيعة فيجب أن يصلحها بما فيه فادزهرية وقد تعين المرارة والحرافة والقبض والعفونة والحموضة كثيراً على فعل الدواء إذا وافقت خاصيته فإن المرارة والحرافة تعينان على التحليل‏.‏

والعفوصة على العصر‏.‏

والحموضة على التقطيع المعَدّ للإزلاق‏.‏

ويجب أن لا يجمع بين مزلق وعاصر على وجه تتكافأ فيه قوتاهما بل يصلح في مثله أن يتباطأ أحدهما عن الآخر فيكون مثل أحد الدواءين مليناً يفعل فعله قبل فعل العاصر ثم يلحق العاصر فيسهل ما لينه وعلى هذا القياس‏.‏

جباناَ بارد اللمس ناعمه ضيق العروق‏.‏

وشبيه بهذا ما تولد الشيخوخة البلغم على أن مزاج الشيخوخة بالحقيقة برد ويبس‏.‏

ويجب أن تعلم أن للدم وما يجري معه في العروق هضماً ثالثاَ وإذا توزع على الأعضاء فليصب كل عضو عنده هضم رابع ففضل الهضم الأول وهو في المعدة يندفع من طريق الأمعاء‏.‏

وفضل الهضم الثاني وهو في الكبد يندفع أكثره في البول وباقيه من جهة الطحال والمرارة وفضل الهضمين الباقيين يندفع بالتحلل الذي لا يحس وبالعرق والوسخ الخارج بعضه من منافذ محسوسة كالأنف والصماخ أو غير محسوس كالمسام أو خارجة عن الطبع كالأورام المتفجرة أو بما ينبت من زوائد البدن كالشعر والظفر‏.‏

واعلم أن من رقت أخلاطه أضعفه استفراغها وتأذى بسعة مسامه إن كانت واسعة تأذياً في قوّته لما يتبع التحلل من الضعف ولأن الأخلاط الرقيقة سهله الاستفراغ والتحلل وما سهل استفراغه وتحلّله سهل استصحابه للروح في تحلله فيتحلل معه‏.‏

واعلم أنه كما أن لهذه الأخلاط أسباباً في تولدها فكذلك لها أسباب في حركتها فإن الحركة والأشياء الحارة تحرك الدم والصفراء وربما حركت السوداء وتقويها لكن الدعة تقوي البلغم وصنوفاً من السوداء‏.‏

والأوهام أنفسها تحرك الأخلاط مثل أن الدم يحرّكه النظر إلى الأشياء الحمر ولذلك ينهى المرعوف عن أن يبصر ماله بريق أحمر فهذا ما نقوله في الأخلاط وتولدها وأما مخاصمات المخالفين في صوابها فإلى الحكماء دون الأطباء‏.‏

 التعليم الخامس

فصل واحد وخمس جمل

ماهية العضو وأقسامه فنقول الأعضاء أجسام متولدة من أول مزاج الأخلاط المحمودة كما أن الأخلاط أجسام متولدة من أول مزاج الأركان‏.‏

والأعضاء‏:‏ منها ما هي مفردة ومنها ما هي مركبة‏.‏

والمفردة هي التي أي جزء محسوس أخذت منها كان مشاركاً للكل في الاسم والحد مثل اللحم وأجزائه والعظم وأجزائه والعصب وأجزائه وما أشبه ذلك تسمى متشابهة الأجزاء‏.‏

والمركبة‏:‏ هي التي إذا أخذت منها جزءاً أي جزء كان لم يكن مشاركاً للكل لا في الاسم ولا في الحد مثل اليد والوجه فإن جزء الوجه ليس بوجه وجزء اليد ليس بيد وتسمى أعضاء آلية لأنها هي آلات النفس في تمام الحركات والأفعال‏.‏

وأول الأعضاء المتشابهة الأجزاء العظم‏:‏ وقد خلق صلباً لأنه أساس البدن ودعامة الحركات‏.‏

ثم الغضروف‏:‏ وهو ألين من العظم فينعطف وأصلب من سائر الأعضاء والمنفعة في خلقه أن يحسن به اتصال العظام بالأعضاء اللينة فلا يكون الصلب واللين قد تركبا بلا متوسط فيتأذى اللين بالصلب وخصوصاً عند الضربة والضغطة بل يكون التركيب مدرجاً مثل ما في العظم الكتفي والشراسيف في أضلاع الخلف ومثل الغضروف الحنجري تحت القصٌ وأيضاً ليحسن به تجاور المفاصل المتحاكة فلا ترضّ لصلابتها وأيضاَ إذا كان بعض العضل يمتد إلى عضو غير ذي عظم يستند إليه ويقوَى به مثل عضلات الأجفان كان هناك دعاماً وعماداً لأوتارها وأيضاً فإنه قد تمس الحاجة في مواضع كثيرة إلى اعتماد يتأتى على شيء قوِيٍ ليس بغاية الصلابة كما في الحنجرة‏.‏

ثم العصب‏:‏ وهي أجسام دماغية أو نخاعية المنبت بيض لدنة لينة في الانعطاف صلبة في الانفصال خلقت ليتم بها للأعضاء الإحساس والحركة ثم الأوتار وهي أجسام تنبت من أطراف العضل شبيهة بالعصب فتلاقي الأعضاء المتحركة فتارة تجذبها بانجذابها لتشنج العضلة واجتماعها ورجوعها إلى ورائها وتارة ترخيها باسترخائها لانبساط العضلة عائدة إلى وضعها أو زائدة فيه على مقدارها في طولها حال كونها على وضعها المطبوع لها على ما نراه نحن في بعض العضل وهي مؤلفة في الأكثر من العصب النافذ في العضلة البارزة منها في الجهة الأخرى‏.‏

ومن الأجسام التي يتلو ذكرها ذكر الأوتار وهي التي تسميها رباطات‏:‏ وهي أيضاً عصبانية المرائي والملمس تأتي من الأعضاء إلى جهة العضل فتتشظّى هي والأوتار ليفاً فما ولي العضلة منها احتشى لحماً وما فارقها إلى المفصل والعضو المحرك اجتمع إلى ذاته وانفتل وتراً لها ثم الرباطات التي ذكرنا وهي أيضاً أجسام شبيهة بالعصب بعضها يسمى رباطاً مطلقاً وبعضها يخص باسم العقب فما امتد إلى العضلة لم يسم إلا رباطاً وما لم يمتد إليها ولكن وصل بين طرفي عظمي المفصل أو بين أعضاء أخرى وأحكم شدّ شيء إلى شيء فإنه مع ما يسمّى رباط قد يخصّ باسم العقب وليس لشيء من الروابط حس وذلك لئلا يتأذى بكثرة ما يلزمه من الحركة والحك‏.‏

ومنفعة الرباط معلومة مما سلف‏.‏

ثم الشريانات‏:‏ وهي أجسام نابتة من القلب ممتدة مجوفة طولاً عصبانية رباطية الجوهر لها حركات منبسطة ومنقبضة تنفصل بسكنات خلقت لترويح القلب ونفض البخار الدخاني عنه ولتوزيع الروح على أعضاء البدن بإذن الله‏.‏

ثم الأوردة‏:‏ وهي شبيهة بالشريانات ولكنها نابتة من الكبد وساكنة ولتوزع الدم على أعضاء البدن ثم الأغشية وهي أجسام منتسجة من ليف عصباني غير محسوس رقيقة الثخن مستعرضة تغشى سطوح أجسام أخر وتحتوي عليها لمنافع منها لتحفظ جملتها على شكلها وهيئتها ومنها لتعلقها من أعضاء أخر وتربطها بها بواسطة العصب والرَّباط التي تشظى إلى ليفها فانتسجت منه كالكلية من الصلب ومنها ليكون للأعضاء العديمة الحس في جوهرها سطح حساس بالذات لما يلاقيه وحساس لما يحدث فيه الجسم الملفوف فيه بالعرض وهذه الأعضاء مثل الرئة والكبد والطحال والكليتين فإنها لا تحسّ بجواهرها البتة لكن إنما تحس الأمور المصادمة لها بما عليها من الأغشية وإذا حدث فيها ريح أو ورم أحس‏.‏

أما الريح فيحسه الغشاء بالعرض للتمدد الذي يحدث فيه وأما الورم فيحسّه مبدأ الغشاء ومتعلقه بالعرض لأرجحنان العضو لثقل الورم‏.‏

ثم اللحم‏:‏ وهو حشو خلل وضع هذه الأعضاء في البدن وقوتها التي تعدم به وكل عضو فله في نفسه قوة غريزية بها يتمّ له أمر التغذي وذلك هو جذب الغذاء وإمساكه وتشبيهه وإلصاقه ودفع الفضل ثم بعد ذلك تختلف الأعضاء فبعضها له إلى هذه القوة قوة تصير منه إلى غيره وبعضها ليس له ذلك‏.‏

ومن وجه آخر فبعضها له إلى هذه القوة قوة تصير إليه من غيره وبعضها ليس له تلك فإذا تركبت حدث عضو قابل معطٍ وعضو معطٍ غير قابل وعضو قابل غير معط وعضو لا قابل ولا معطٍ أما العضو القابل المعطي فلم يشك أحد في وجوده فإن الدماغ والكبد أجمعوا أن كل واحد منهما يقبل قوة الحياة والحرارة الغريزية والروح من القلب‏.‏

وكل واحد منهما أيضاً مبدأ قوة يعطيها غيره‏.‏

وأما الكبد‏:‏ فمبدأ التغذية عند قوم مطلقاً وعند قوم لا مطلقاً‏.‏

وأما العضو القابل الغير المعطي فالشك في وجوده أبعد مثل اللحم القابل قوة الحس والحياة وليس هو مبدأ لقوة يعطيها غيره بوجه‏.‏

وأما القسمان الآخران فاختلف في أحدهما الأطباء مع الكثير من الحكماء فقال الكثير من القدماء‏:‏ أن هذا العضو هو القلب وهو الأصل لكل قوة وهو يعطي سائر الأعضاء كلّها القوى التي تغذو والتي تدرك وتحرك‏.‏

وأما الأطباء وقوم من أوائل الفلاسفة فقد فرقوا هذه القوى في الأعضاء ولم يقولوا بعضو معط غير قابل لقوة وقول الكثير عند التحقيق والتدقيق أصح وقول الأطباء في بادىء النظر أظهر‏.‏

ثم اختلف في القسم الآخر الأطباء فيما بينهم والحكماء فيما بينهم فذهبت طائفة إلى أن العظام واللحم الغير الحساس وما أشبههما إنما يبقى بقوى فيها تخصها لم تأتها من مبادٍ أخر لكنها بتلك القوى إذا وصل إليها غذاؤها كفت أنفسها فلا هي تفيد شيئاً اَخر قوة فيها ولا أيضاً يفيدها عضو قوة أخرى‏.‏

وذهبت طائفة إلى أن تلك القوى ليس تخضها لكنها فائضة إليها من الكبد أو القلب في أول الكون ثم استقرت فيه والطبيب ليس عليه أن يتتبع المخرج إلى الحق من هذين الاختلافين بالبرهان فليس له إليه سبيل من جهة ما هو طبيب ولا يضرّه في شيء من مباحثه وأعماله ولكن يجب أن يعلم ويعتقد في الاختلاف الأوّل أنه لا عليه كان القلب مبدأ في الحس والحركة للدماغ وللقوة المغتذية للكبد أو لم يكن فإن الدماغ إما بنفسه وإما بعد القلب مبدأ للأفاعيل النفسانية بالقياس إلى سائر الأعضاء‏.‏

والكبد كذلك مبدأ للأفعال الطبيعية المغذية بالقياس إلى سائر الأعضاء‏.‏

ويجب أن يعلم ويعتقد في الاختلاف الثاني أنه لا عليه كان حصول القوة الغريزية في مثل العظم عند أوّل الحصول من الكبد أو يستحقه بمزاجه نفسه أو لم يكن ولا واحد منهما ولكن الآن يجب أن يعتقد أن تلك القوة ليست فائضة إليه من الكبد بحيث لو انسد السبيل بينهما وكان عند العظم غذاء مغذِ بطل فعله كما للحس والحركة إذا انسد العصب الجائي من الدماغ بل تلك القوة صارت غريزية للعظم ما بقي على مزاجه فحينئذ ينشرح له حال القسمة ويفترض له أعضاء رئيسية وأعضاء خادمة للرئيسة وأعضاء مرؤوسة بلا خدمة وأعضاء غير رئيسة ولا مرؤوسة‏.‏

فالأعضاء الرئيسة هي الأعضاء التي هي مبادٍ للقوى الأولى في البدن المضطر إليها في بقاء الشخص أو النوع‏.‏

أما بحسب بقاء الشخص فالرئيسة ثلاث القلب وهو مبدأ قوة الحياة والدماغ وهو مبدأ قوة الحسّ والحركة والكبد هو مبدأ قوة التغذية‏.‏

وأما بحسب بقاء النوع فالرئيسة هذه الثلاثة أيضاَ ورابع يخصّ النوع وهو الانثيان اللذان يضطر إليهما لأمر وينتفع بهما لأمر أيضاً‏.‏

أما الاضطرار فلأجل توليد المني الحافظ للنسل وأما الانتفاع فلأجل إفادة تمام الهيئة والمزاج الذكوري والأنوثي اللذين هما من العوارض اللازمة لأنواع الحيوان لا من الأشياء الداخلة في نفس الحيوانية‏.‏

وأما الأعضاء الخادمة فبعضها تخدم خدمة مهيئة وبعضها تخدم خدمة مؤدّية والخدمة المهيئة تسمى منفعة والخدمة المؤدية تسمّى خدمة على الاطلاق والخدمة المهيئة تتقدم فعل الرئيس والخدمة المؤدية تتأخّر عن فعل الرئيس‏.‏

أما القلب فخادمه المهيء هو مثل الرئة والمؤدي مثل الشرايين‏.‏

وأما الدماغ فخادمه المهيئ هو مثل الكبد وسائر أعضاء الغذاء وحفظ الروح والمؤدي هو مثل العصب‏.‏

وأما الكبد فخادمه المهيئ هو مثل المعدة والمؤدي هو مثل الأوردة‏.‏

وأما الانتيان فخادمهما المهيء مثل الأعضاء المولّدة للمني قبلها وأما المؤدي ففي الرجال الإحليل وعروق بينهما وبينه وكذلك في النساء عروق يندفع فيها المني إلى المحبل وللنساء زيادة الرحم تتم فيه منفعة المني‏.‏

وقال ‏"‏ جالينوس ‏"‏‏:‏ إن من الأعضاء ما له فعل فقط ومنها ما له منفعة فقط ومنها ما له فعل ومنفعة معاً‏.‏

الأول كالقلب والثاني كالرئة والثالث كالكبد‏.‏

وأقول‏:‏ أنه يجب أن نعني بالفعل ما يتم بالشيء وحده من الأفعال الداخلة في حياة الشخص أو بقاء النوع مثل ما للقلب في توليد الروح وأن نعني بالمنفعة ما هي لقبول فعل عضو آخر حينئذ يصير الفعل تامًا في إفادة حياة الشخص أو بقاء النوع كإعداد الرئة للهواء وأما الكبد فإنه يهضم أولاً هضمه الثاني ويعد للهضم الثالث والرابع فيما يهضم الهضم الأول تامًا حتى يصلح ذلك الدم لتغذيته نفسه ويكون قد فعل فعلاً وربما قد يفعل فعلاً عيناً لفعل منتظر يكون قد نفع‏.‏

ونقول أيضاً من رأس‏:‏ أن من الأعضاء ما يتكوّن عن المني وهي المتشابهة جزءاً خلا اللحم والشحم ومنها ما يتكون عن الدم كالشحم واللحم فإن ما خلاهما يتكوّن عن المنيين مني الذكر ومني الأنثى إلا أنها على قول من تحقق من الحكماء يتكون عن مني الذكر كما يتكون الجبن عن الأنفحة ويتكوّن عن مني الأنثى ما يتكوّن الجبن من اللبن وكما أن مبدأ العقد في الأنفحة كذلك مبدأ عقد الصورة في مني الذكر وكما أن مبدأ الانعقاد في اللبن فكذلك مبدأ انعقاد الصورة أعني القوة المنفعلة هو في مني المرأة وكما أن كل واحد من الأنفحة واللبن جزء من جوهر الجبن الحادث عنها كذلك كل واحد من المنيين جزء من جوهر الجنين‏.‏

وهذا القول يخالف قليلاً بل كثيراً قول ‏"‏ جالينوس ‏"‏ فإنه يرى في كل واحد من المنيين قوة عاقدة وقابلة للعقد ومع ذلك فلا يمتنع أن يقول‏:‏ إن العاقدة في الذكوري أقوى والمنعقدة في الأنوثي أقوى وأما تحقيق القول في هذا ففي كتبنا في العلوم الأصلية‏.‏

ثم إن الدم الذي كان ينفصل عن المرأة في الأقراء يصير غذاء فمنه ما يستحيل إلى مشابهة جوهر المني والأعضاء الكائنة منه فيكون غذاء منمياً له ومنه ما لا يصير غذاء لذلك ولكن يصلح لأن ينعقد في حشوه ويملأ الأمكنة من الأعضاء الأولى فيكون لحماً وشحماً ومنه فضل لا يصلح لأحد الأمرين فيبقى إلى وقت النفاس فتدفعه الطبيعة فضلاً‏.‏

وإذا ولد الجنين فإن الدم الذي يولده كبده يسد مسد ذلك الدم ويتولد عنه ما كان يتولد عن ذلك الدم واللحم يتولّد عن متين الدم ويعقده الحر واليبس‏.‏

وأما الشحم فمن مائيته ودسمه ويعقده البرد ولذلك يحله الحر وما كان من الأعضاء متخلفاً من المنيين فإنه إذا انفصل لم ينجبر بالاتصال الحقيقي إلا بعضه في قليل من الأحوال وفي سن الصبا مثل العظام وشعب صغيرة من الأرودة دون الكبيرة ودون الشرايين وإذا انتقص منه جزء لم ينبت عوضه شيء وذلك كالعظم والعصب وما كان متخلّقاً من الدم فإنه ينبت بعد انثلامه ويتصل بمثله كاللحم وما كان متولداً عن دم فيه قوة المني بعد فما دام العهد بالمني قريباً فذلك العضو إذا فات أمكن أن ينبت مرة أخرى مثل السنّ في سنّ الصبا وأما إذا استولى على الدم مزاج آخر فإنه لا ينبت مرة أخرى‏.‏

ونقول أيضاً‏:‏ إن الأعضاء الحساسة المتحرّكة قد تكون تارة مبدأ الحس والحركة لهما جميعاً عصبة واحدة وقد يفترق تارة ذلك فيكون مبداً لكل قوة عصبة‏.‏

ونقول أيضاً‏:‏ ان جميع الأحشاء الملفوفة في الغشاء منبت غشائها أحد غشاءي الصدر والبطن المستبطنين أما ما في الصدر كالحجاب والأوردة والشريانات والرئة فمنيت أغشيتها من الغشاء المستبطن للأضلاع وأما ما في الجوف من الأعضاء والعروق فمنبت أغشيتها من الصفاق المستبطن لعضل البطن وأيضاً فإن جميع الأعضاء اللحمية إما ليفية كاللحم في العضل وإما ليس فيها ليف كالكبد ولا شيء من الحركات إلا بالليف‏.‏

أما الإرادية فبسبب ليف العضل‏.‏

وأما الطبيعية كحركة الرحم والعروق والمركبة كحركة الازدراد فبليف مخصوص بهيئة من وضع الطول والعرض والتوريب فللجذب المطاول وللدفع الليف الذاهب عرضاً العاصر وللإمساك الليف المورب‏.‏

وما كان من الأعضاء ذا طبقة واحدة مثل الأوردة فإن أصناف ليفه الثلاثة منتسج بعضها في بعض وما كان طبقتين فالليف الذاهب عرضاً يكون في طبقته الخارجة والآخران في طبقته الداخلة ألاَ أن الذاهب طولاً أميل إلى سطحه الباطن وإنما خلق كذلك لئلا يكون ليف الجذب والدفع مقابل ليف الجذب والإمساك هما أولى بأن يكونان معاً ألا في الأمعاء فإن حاجتها لم تكن إلى الإمساك شديدة بل إلى الجذب والدفع‏.‏

ونقول أيضاَ‏:‏ إن الأعضاء العصبانية المحيطة بأجسام غريبة عن جوهرها منها ما هي ذات طبقة واحدة ومنها ما هي ذات طبقتين وإنما خلق ما خلق منها ذا طبقتين لمنافع‏:‏ أحدها مس الحاجة إلى شدة الاحتياط في وثاقة جسميتها لئلا تنشق لسبب قوة حركتها بما فيها كالشرايين‏.‏

والثاني مس الحاجة إلى شدة الاحتياط في أمر الجسم المخزون فيها لئلا يتحلل أو يخرج‏.‏

أما استشعار التحلل فبسبب سخافتها إن كانت ذا طبقة واحدة وأما استشعار الخروج فبسبب إجابتها إلى الانشقاق لذلك أيضاً وهذا الجسم المخزون مثل الروح والدم المخزونين في الشرايين اللذين يجب أن يحتاط في صونهما ويخاف ضياعهما‏.‏

أما الروح فبالتحلل وأما الدم فبالشق وفي ذلك خطر عظيم‏.‏

والثالث أنه إذا كان عضو يحتاج أن يكون كل واحد من الدفع والجذب فيه بحركة قوية أفرد له آلة نجلا اختلاط وذلك كالمعدة والأمعاء‏.‏

والرابع أنه إذا أريد أن تكون كل طبقة من طبقات العضو لفعل يخصه وكان الفعلان يحدث أحدهما عن مزاج مخالف للآخر كان‏.‏

التفريق بينهما أصوب مثل المعدة فإنه أريد فيها أن يكون لها الحس وذلك إنما يكون بعضو عصباني وأن يكون لها الهضم وذلك إنما يكون بعضو لحماني فأفردا لكل من الأمرين طبقة‏:‏ طبقة عصبية للحس وطبقة لحمية للهضم وجعلت الطبقة الباطنية عصبية والخارجة لحمانية لأن الهاضم يجوز أن يصل إلى المهضوم بالقوة دون الملاقاة والحاس لا يجوز أن يلاقي المحسوس أعني في حس اللمس‏.‏

وأقول أيضاً‏:‏ إن الأعضاء منها ما هي قريبة المزاج من الدم فلا يحتاج الدم في تغذيتها إلى أن يتصرَف في استحالات كثيرة مثل اللحم فلذلك لم يجعل فيه تجاويف و بطون يقيم فيها الغذاء الواصل مدة لم يغتذ به اللحم ولكن الغذاء كما يلاقيه يستحيل إليه‏.‏

ومنها ما هي بعيدة المزاج عنه فيحتاج الدم في أن يستحيل إليه إلى أن يستحيل أولاً استحالات متدرجة إلى مشاكلة جوهره كالعظم فلذلك جعل له في الخلقة إما تجويف واحد يحتوي غذاءه مدة يستحيل في مثلها إلى مجانسته مثل عظم الساق والساعد أو تجويف متفرق فيه مثل عظم الفلك الأسفل وما كان من الأعضاء هكذا فإنه يحتاج أن يمتاز من الغذاء قوق الحاجة في الوقت ليحيله إلى مجانسته شيئاً بعد شيء‏.‏

والأعضاء القوية تدفع فضولها إلى جاراتها الضعيفة كدفع القلب إلى الإبطين والدماغ إلى ما خلف الأذنين والكبد إلى الأربيتين‏.‏